دورة حياة الوساوس والأفكار
الموضوع طويل قليلا إلا انه يستحق القراءة
حتى نُضيق مساحات الهم الفاسد في رؤوسنا
لاشك أنك قرأت عن دورة حياة دودة القز, أو درست دورة حياة الفراشة, أو سمعت عن دورة حياة أحد النباتات الزهرية. وأكيد انك دهشت وهتف قلبك : بـ يا سبحان الله الخالق عندما شاهدت دورة حياة الضفدع أو دورة حياة الفطريات في جسم الإنسان.
ولكن هل قرأت عن دورة حياة الوساوس والأفكار ؟
وهل حقا للوساوس والأفكار والخواطر دورة حياة ؟
خطر ببالي هذا الأمر وأنا أتذكر قصة رواها الأستاذ محمد العدوي أحد رموز العمل الدعوي في مصر. يوم أن كان مسئولا عن أحد معسكرات الجوالة للشباب . وذات صباح هم الرجل – مجرد هم – بالخروج إلى طابور الجوالة الصباحي دون أن يرتدي اللباس الخاص بالجوالة . وراوده الأمر لثوان معدودات . ولكنه سرعان ما استهجن الأمر وطرحه جانبا , وهم الرجل ولبس اللباس الخاص بالجوالة . ونزل إلى الطابور في كامل انضباطه , ليظل القدوة والرمز في أعين الشباب. وما أن خرج الرجل إلى طابور الصباح حتى هاله ما رأى .
وجد - رحمه الله - ما لم يكن يتوقعه . هرج , ومرج , وفوضى , لم يعهدها من قبل في مثل هذه المعسكرات . والأعجب أنه وجد هناك عددا ليس بقليل من الشباب وقد خرجوا لأول مرة إلى الطابور بدون الالتزام بالزى الكامل والمتعارف عليه في معسكرات الجوالة, فتعجب الرجل وأرجع الخلل الذي حدث في المعسكر في ذلك اليوم إليه هو هو . وانه كمسئول وكمؤتمن على هذا العمل أمام الله هم - مجرد هم - بتعطيل أمر متعارف عليه . فكانت النتيجة وكان الدرس.
الدرس الذي علمنا إياها الأستاذ - رحمه الله - والذي يجب أن نعيه جميعا وهو: إن المسئول أيا كان موقعه, وأي كان العمل الذي يقوم به إذا استجاب للوساوس أو الخواطر التي تعطل أو تعرقل أو تؤثر على معايير الانجاز المستهدف تحقيقها , فإن تلك الوساوس سرعان ما تتسرب إلي عقول مرؤوسيه وقلوب من هم تحت إمرته كما يتسرب النوم إلى الجفون, كيف؟ , متى ؟, لا احد يعلم .
إن تلك الخواطر والوساوس لها دورة حياة عجيبة. فما أن تهجم تلك ( الوساوس ) على العقول والقلوب, فإنها سرعان ما تتحول إلى ( أفكار) وتلك الأفكار سرعان ما تتحول إلى ( تمني) وهذا التمني سرعان ما يتحول إلى ( إرادة ) وهذه الإرادة إن اكتمل نضجها فإنها تصل إلى ( الجوارح ) . وإن وصلت الإرادة إلي الجوارح فلابد لها من أن تخرج إلي (حيز الواقع), ولابد لها وأن تتحول إلي (عمل) . هذا العمل قد ينفذ بواسطة الشخص(المسئول) نفسه , أو عن طريق من هم ( تحت إمرته) . وتدور الدائرة وتبدأ دورة تسرب الوساوس من مستوى إلى مستوى, ومن مجموعة إلى مجموعة , ومن جيل إلى جيل حتي يستشري البلاء في المجتمع .
لذلك فالله سبحانه وتعالى لا يريد لمن هم في موقع المسؤولية مجرد أن يمر الذنب أو التقصير أو التعطيل على مخيلاتهم . وهذه درجة لا يصل إليها أي إنسان . وهي درجة توضح لنا إن (تولية الأمر) مسؤولية جسيمة وأمانة ثقيلة تحتاج إلى إيمان راسخ وأعصاب قوية وجهد كبير وصبر لا ينفذ، وليس بمقدور أي شخص أن يتحمل هذا العبء الثقيل. وعليه لا يجوز للمسلم أخذ الولاية إلا إذا وجد في نفسه الكفاءة والجدارة كما أفتى بذلك الشيخ عكرمة صبريمفتي القدس . وذلك لأن من هم في موقع المسؤولية إن هم ضعفوا أو استكانوا أو استجابوا للوساوس والأفكار الغير نظيفة فالضرر عام, والأثر ماحق , والمجتمع كله سيتأثر بذلك .
ويروى أن قبيلة " بُجَيلَه " كانت من قبائل العرب المشهورة بالبخل . وذات يوم قرروا فعل فعلٍ يرفع عنهم هذا العار . فقالوا : هذه وفود الحجيج قد اجتمعت عند أطراف البلدة , فلنصنع لهم معروفا أو نقدم لهم إحسانا يشيع خبره بين القبائل ويزول عنا هذا العار الذي لُصق بنا . فاتفقوا على أن يحمل كل واحد منهم قربة من لبن يقدموها إلى حجاج بيت الله . وبالفعل احضروا القرب, وتوجهوا إلى حيث يتجمع الحجيج و نادوا فيهم : ألا هلموا إلى شرب اللبن . ألا هلموا إلى شرب اللبن . وأخذ كل واحد منهم يقول لصاحبه ابدأ, تقدم أنت واسقهم , هيا بادر بحل قربتك . ولكن امتنع كل واحد منهم عن حل قربته . وبينما هم كذلك عمد بعض الحجيج إلى قربة فحلوها . فإذا بالقربة ماء !!!
فقال صاحبها – وكان كبير القوم أو سيدهم :
- إن هذه القربة لي, ولقد قلت في نفسي: إن أحضر كل فرد من أفراد القبيلة قربة من اللبن فستضيع قربتي بين قربهم. وإن أحضر كل فرد قربة من ماء فأنا مثلهم.
ولما كانت هذه هي نية المسؤول , ولما كان هذا تفكير سيد القوم وكبيرهم , فسرعان ما دارت دورة حياة الوساوس و تسربت إلى عقول وقلوب أبناء القبيلة كلهم حتى اتفق الجميع - لا شعوريا - على ذلك الخيال الفاسد فساءهم ما فعلوا, وانتشر خبرهم بين القبائل, وازداد عليهم العار , حتى التصق بهم
إن هذا العار الذي لحق بهذه القبيلة كان مرده إلى الوساوس الغير نظيفة التي سيطرت على عقل هذا المسؤول , والت سرعان ما دارت دورتها وتسربت إلى من هم تحت رعايته ونتج عنها فساد العمل وحرمانهم للخير . إن النية لها قوة مغناطيسية هائلة تجذب إلي صاحبها ما هم به وما نوى . وصدق من قال إن النية مطية . مطية تحمل صاحبها إلى حيث هم ونوى . فكل إنسان يحصد ما روته نيته, إن خيرا فخير وان شرا فشر .والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يبسط كل ذلك بقوله:
" ..... وإنما لكل امرئ ما نوى "
إن الأمر في غالب الأحيان يبدأ في رأس المسئول بتحرك النفس نحو الخواطر الغير نظيفة , وإذا تحركت النفس هكذا حركة فسرعان ما يتحول الأمر في رأس المسئول من هاجس إلي خاطر , ومن خاطر إلى حديث نفس . ومن حديث نفس إلي هم ومن الهم إلي العزم. فإذا ما وصلنا إلى هذا الطور فلابد أن يترجم العزم إلي عمل ترى نتائجه في الحال . فيا من ابتلاه الله ببلاء المسؤولية بجميع أنواعها ودرجاتها , إياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك ، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك ..كما قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد .
ويروى أن ملك الفرس( ابرويز) نزل عند امرأة متنكرا , وكان عندها بقرة , فحلبت له منها حليبا حتى شبع , فسأل المرأة :
- كم يأخذ الحاكم سنويا عن هذه البقرة ؟
- فقالت : يأخذ درهما واحدا.
- فسألها: أين ترتع هذه البقرة ؟
- فقالت : في أرض الملك.
فنوى الملك في نفسه أن يرفع الإتاوة التي يأخذها مقابل رعيها في أرض الدولة. فلما حل موعد الوجبة الثانية , وأرادت أن تحلب له رأت أن الحليب قل وارتفع من ضرع البقرة, فشهقت وضربت صدرها بيدها وهي تقول :
- والله لقد هم الملك بظلم .
- فقال لها : وكيف عرفت؟
- فقالت : إن الحليب قد انقطع من ضرع البقرة , وإنه لا يقضي على الخصب في الزرع , والدر في الضرع إلا سوء نية الحاكم, كما أن نيته الحسنة وعدله سببا في خصب الزمان وامتلاء الضرع بالألبان .
فأقلع الملك عما نوى في الحال بعدما رأى بأم عينه وفي وقت قصير ما سببته سوء نيته . فكم من زرع يقل خصبه , وكم من ضرع يجف دره بسبب النوايا الغير نظيفة والوساوس الشريرة , والهم الفاسد .
ولقد عرف عن هذا الملك بعد ذلك أنه كان دائما يردد :
إذا هم الحاكم بالجور نزعت البركة, وإذا جار حل البلاء.
إننا يجب أن نضيق مساحات الهم الغير نظيف في رؤوسنا , ويجب أن نحاصر الهم الفاسد في نفوسنا, ويجب أن نضيق الخناق على الوساوس الشريرة في عقولنا ونحاول أن نفسد عليها دورة حياتها حتي لا تثمر بتسربها إلى من هم حولنا .ولنتعاهد على وأد هذه الوساوس في مهدها . ولنعلم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار ، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات ، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتدارك فساد العمل , أسهل من قطع العوائد. ولنعلم كما قال الحسن رحمه الله" أنما هما همان يجولان في القلب . هم من الله تعالى ، و هم من العدو ، فرحم الله عبداً وقف عند همه فما كان من الله تعالى أمضاه ، و ما كان من عدوه جاهده و توقاه .
إن الله سبحانه قد خلق النفس- كما قال ابن القيم رحمه الله - شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولابد لها من شيء تطحنه ، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب طحنته،وان وضع فيها حصى طحنته , فالأفكار والخواطر( والوساوس ) التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، و تلك الرحى لا تبقى معطلة قط ، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره ، وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه .